فصل: مطلب: في الحيض والنفاس وما يجوز معهما وما يمتنع وكفارة من يقرب الحائض وفي الإتيان في الدبر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب: في الحيض والنفاس وما يجوز معهما وما يمتنع وكفارة من يقرب الحائض وفي الإتيان في الدبر:

روى مسلم عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسألوا أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه هذه الآية فقال صلّى اللّه عليه وسلم: اصنعوا كل شيء إلا النكاح.
فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حفير وعباد بن بشير فقالا يا رسول اللّه إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا نجامعهن، فتغير وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أي لكراهة ما سمع منهما بعد نزول هذه الآية، فقال الحاضرون هذه الحادثة غضب رسول اللّه حتى ظننا أنه قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أنه لم يجد عليهما أي لم يغضب، وإنما غضب من سؤالهما الأخير لمغايرته ما جاء في الآية الشريفة وهو لا يغضب إلا للّه، لذلك أبان لهما بفعله هذا أنه لم يجد عليهما إلا أنه أفهمهما بأن سؤالا كهذا تجد قول اللّه يوجب غضبه، لينتهي الآخرون عن مثله، وليعلموا أن نهيه عن عدم قربان الحائض ليس لمخالفة اليهود وإنما هو اتباع لوحي اللّه الواجب إتباعه وافق شرع اليهود أم خالفه، لأن شرعنا ناسخ لما تقدمه من الشرائع كلها.
الحكم الشرعي:
أجمع المسلمون على تحريم الجماع زمن الحيض وعلى كفر من يستحله لمخالفته القرآن، فقد أخرج الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال: من أتى حائضا أو امرأة في دبرها، أو كاهنا أي أو جاء كاهنا يستشيره فقد كفر بما أنزل على محمد.أي إذا استحل ذلك ولم ير بأسا به.
وأخرج الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم في الرجل يقع على امرأته وهي حائض قال يتصدق بنصف دينار.
وفي رواية إن كان دما أحمر أي في أول الحيض فدينار، وإن كان أصفر أي في أواخره فنصف دينار، وهذه كفارته إذا لم يستحل، أما إذا استحله فلا كفارة فيه، وإنما فيه الكفر والعياذ باللّه وعليه التوبة والرجوع إلى اللّه وإلا فيقتل.
وأجمعوا على جواز الاستمتاع بالحائض بما فوق السرة ودون الركبة، وجواز مضاجعتها، فقد أخرج في الصحيحين عن عائشة قالت: كنت أغتسل أنا ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من إناء واحد وكلانا جنب وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض، أي يستمتع بي.
وأجمعوا على أن الحائض يحرم عليها الصوم والصلاة ودخول المسجد وقراءة القرآن ومس المصحف وحمله، ووجوب قضاء الصوم لعدم تكرره، وعدم قضاء الصلاة لتكررها.
وقد أخرج في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان يأمرها بقضاء الصوم دون الصلاة، وأجمعوا على عدم ارتفاع شيء مما حرمه الحيض عنها حتى تغتسل أو تتيمم إلا الصوم فإنه إذا انقطع دمها بالليل ونوت صيام النهار صح.
وقال أبو حنيفة يجوز جماعها بعد مضي أكثر مدة الحيض إذا فاتها وقت صلاة ولم تعتسل، وظاهر الآية يؤيد الإجماع وقراءة التشديد في يطهّرن يؤكده، وإنما جعلت كفارة من يجامع زوجته وهي حائض دينارا أو نصف دينار، لأنه واللّه أعلم يقابله دفع البلاء المتوقع حدوثه الوارد بالحديث الشريف المار ذكره، لأن الصدقة تدفع البلاء.
قال تعالى: {نِساؤُكُمْ حَرْث لَكُمْ} مزرع ومنبت الولد كما أن الأرض مزرع ومنبت الحب شبه جل جلاله قبل المرأة بالأرض، والنطفة بالبذر، والولد بالنبات، تشبيها بليغا: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} من قيام وقعود واستلقاء وعلى طرف مقبلة أو مدبرة وعلى أي صورة وحالة ومكان وزمان شئتم، ولكن في القبل، لأنه محل الزرع المعبّر عنه بالحرث كالأرض الطيبة المنبتة، فإن اللّه تعالى أحل لكم ذلك كله كيف شئتم عدا أيام الصوم والحج والحيض والنفاس والأمكنة المحترمة.
وتشير هذه الآية إلى تحريم إتيان النساء في أدبارهن، ولهذا المغزى عبر عنه تعالى بالحرث ويؤيد هذا ما رواه أبو هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ملعون من أتى المرأة في دبرها- أخرجه أبو داود-.
وقد أجمع العلماء على تحريم إتيان النساء في أدبارهن لأن اللّه تعالى حرم الفرج حال الحيض للأذى العارض وهو الدم، فمن باب أولى أن يحرم الدبر الملازم للنجاسة دائما المولدة للأمراض التناسلية، أعاذنا اللّه من ذلك، وقاتل فاعليه ولأن اللّه تعالى نص على ذكر الحرث وهو محل النبات فلا يجوز العدول عنه إلى غيره، ولا يجوز بل يحرم على القطع تأويل محل الحرث بالدبر، لأنه سباخ لا ينبت، ولقوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} الآية: السابقة، واللّه قد أمر أن يكون بالفرج دائما إلا وقت الحيض والنفاس للأذى والقذارة، والدبر محل الأرجاس دائما والأذى متحقق فيه، فالإتيان بالدبر مخالف للقرآن والحديث ويكفر مستحله وهذا هو الحكم الشرعي فيه.
وما قيل إن الإمام مالك استدل في هذه الآية على جواز إتيان النساء في أدبارهن مكذوب عليه، وحاشاه من ذلك وتنزهت ساحته رضي اللّه عنه عما هنالك، وكذلك ما حكاه زيد بن أسلم عن نافع ومحمد بن المنكدر لا حقيقة له لمخالفته إجماع الفقهاء الذين أجمعوا على أن الحرث لا يكون إلا بحيث يكون النسل فيجب أن يكون الوطء حيث يكون النسل.
وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري ومسلم عن جابر قال: كانت اليهود تقول إذا جامعها فمن ورائها جاء الولد أحول، وفي رواية للترمذي: كانت اليهود تقول من أتى المرأة في قبلها من دبرها وذكر الحديث، وما قيل إنها نزلت في إتيان النساء في أدبارهن يرده ما رواه عبد اللّه بن الحسن أنه لقي سالم بن عبد اللّه بن عمر فقال له يا عم ما حديث يحدثه نافع عن عبد اللّه أنه لم يكن ير بأسا في إتيان النساء في أدبارهن فقال كذب العبد وأخطأ وإنما قال عبد اللّه يؤتون في فروجهن من أدبارهن، وعلى هذا يؤول ما رواه ابن عباس عن عمر رضي اللّه عنهم حينما قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم هلكت، قال وما أهلكك؟ قال حولت رحلي الليلة فلم يرد عليه حتى أوحى اللّه لرسوله في هذه الآية والحديث هذا أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح وحاشا عمر أن يصدر منه غير الإتيان في القبل، إذ لا يميل إلى ذلك المحل الخبيث عاقل فكيف بمعدن العقل والمروءة؟ هذا واعلم أن كل ما ورد من الأحاديث في هذا الشأن محمول على هذا ولا يقول بغيره إلا منافق خبيث، وما قاله بعض الإمامية فهو من هذا القبيل استنادا على تأويل الحديث بما ليس مطلوب في معناه فلا يلتفت إليه والأكثر منهم على خلافه، وكل من له مكة من علم أو لمعة من إدراك أو ذرة من إيمان يقول بحرمته ولا يتردد في تأويل هذه الآية وتفسير هذه الأحاديث إلا على ما ذكرنا فضلا من أن الطبع السليم والغيرة الإنسانية يمجّانه ويقبحانه ويلعنان فاعله: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} الأولاد الذين هم مظنة الانتفاع بهم في الدنيا والآخرة بإتيان النساء في فروجهن كما أمركم اللّه وإياكم أن تجعلوا نطفكم في غير محل الحرث فتهلكوا في الدنيا بالأمراض السارية الناشئة عن قذارة المحل، وفي الآخرة بالطرد من رحمة اللّه والتعرض لعذابه الأليم.
ومما يؤكد قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أن تتجاوزوا ما أمرتم به إلى ما نهيتم عنه، وهذه الجملة مما تؤيد ما جرينا عليه في تفسير هذه الآية، إذ لا معنى للتقديم هنا غيره، لأنه معدوم في الأدبار.
قال تعالى مهددا لمن خالف ذلك: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} أيها العصاة بعد الموت فيجازيكم على مجاوزة أوامره: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} الذين يمتثلون أوامر اللّه بالكرامة والرضوان.
قال تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ} وهذه الآية جاءت كالمعترضة بين أحكام النساء التي هي من تنمة معاملات النكاح، وذلك أنه كان بين عبد اللّه بن رواحة وختنه بشير بن النعمان شيء، فحلف لا يدخل عليه ولا يكلمه، وكلما قيل له فيه يقول حلفت فلا أتداخل في أمره إلا أن تبرّ يمني فأنزل اللّه هذه الآية له ولغيره إلى قيام الساعة، أي لا تجعلوا أيها المؤمنون الحلف سببا مانعا للبر والتقوى والإصلاح بين الناس وموجبا للقطيعة بينكم ولا تحلفوا على شيء من ذلك ومن حلف فعليه أن يكفر عن يمينه ويفعل ما هو الأحسن لقوله جلّ قوله: {أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيع} لأقوالكم كلها الموثقة بالإيمان وغيرها: {عَلِيم} بما هو الأصلح لكم، ولذلك ينهاكم عن الحلف وعن أن تجعلوه سببا حائلا لأعمال البر والخير.
تشير هذه الآية إلى النهي عن الإقدام على كثرة الحلف لما فيه من الجرأة عليه.
وقد ذم جلّ شأنه مكثره بقوله: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} الآية: 10 من سورة نون وقوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ} الآية: 92 من سورة المائدة الآتية.
وترك الحلف والتباعد عنه محمود عند العرب حتى إنهم يصفون قليله بأقوالهم، قال كثير:
قليل الألايا حافظ ليمينه ** وإن سبقت منه الأليّة برّت

أي كان لم يقصد الحلف، ولكن سبق لسانه به، ومع هذا فإنه يبر بها احترام لشأنها، ولهذا يقول اللّه تعالى إنما نهيتكم عن الحلف إرادة أن تبروا به لأن توقيه من البر والتباعد عنه من التقوى والرجوع إلى ما هو الأحسن من الإصلاح.
وقال بعض المفسرين إن الآية على حذف حرف الجر، أي من أن تبروا إلخ من حيث لا حاجة لتقدير من أوفى على قول الآخر أي في أن تبروا، أو تقدير أي أن لا تبروا لجواز حذفها في لغة العرب لمعلوميتها، قال امرؤ القيس:
فقلت يمين اللّه أبرح قاعدا ** ولو قطعوا رأسي إليك وأوصالي

أي لا أبرح تدبر.
روى البخاري ومسلم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: من حلف علي يمين فرأى خيرا منها فلياتها وليكفّر.

.مطلب: في الأيمان وكفّارتها والإيلاء والطلاق والعدة وكلمات من الأضداد وما يتعلق بحقوق الزوجين:

وترمي هذه الآية إلى النهي عن الحلف باللّه لما ذكرنا ما فيه من الجرأة عليه، ألا فليحذر المكثرون من الحلف وليعظموا أسماء اللّه لأن في الإكثار من الحلف تهاونا يؤاخذ عليه العبد، أما الذين لا يتهاونون بالأيمان وقد يقع منهم ذلك بمعرض الكلام مما هو غير مقصود فيقول لهم ربهم: {لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ} أي مما لم يكن عن فكر وروية وما لا عقد له ولم يكن مقصودا كقول الرجل لا واللّه ما الأمر هكذا وبلى واللّه كان ذلك مما قد يكون من الإنسان بمعرض الكلام والمخاطبة من غير عقد اليمين ونيته، فلا كفارة عليه ولا إثم، أما الذي يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب فيه ليرضي الناس أو ليعتذر لهم أو يقتطع بيمينه مال أحد فهو أعظم وأعظم من أن يكون فيه كفارة، وإنما الكفارة على من حلف أن لا يفعل شيئا مباحا ثمّ فعله، أو أن يفعله ثمّ لا يفعله.
قال مالك في موطأه: أحسن ما سمعت أن اللغو هو حلف الإنسان على الشيء يتيقن أنه كذلك ثمّ يوجد بخلافه، فهذا لا كفارة عليه ولا إثم، وما عدا ذلك فقيه الكفارة والإثم، أما اليمين الغموس التي فيها هضم حقوق الناس فلا كفارة فيها لعظمها عند اللّه كالقتل العمد لا دية فيه لعظمه أيضا: {وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أي ما وقع منكم عن قصد وعزم ونية وجزمتم على فعله وعقدتم عليه، وهذا هو معنى كسب القلب المراد بالآية.
الحكم الشرعي:
لا ينعقد اليمين إلا باسم اللّه تعالى أو بصفة من صفاته، فمن حلف باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته على نحو ما تقدم ولم يبر بيمينه فعليه الكفارة وهي عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو صيام ثلاثة أيام على التخيير كما سيأتي في الآية 93 من المائدة، ومن حلف بغير ذلك فهو آثم، لأنه عظم المخلوق به وهو غير معظّم تعظيم من يحلف به، ولهذا فلا كفارة عليه إهانة للمخلوق به.
روى ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أدرك عمر وهو يسير في ركب ويحلف بأبيه فقال صلّى اللّه عليه وسلم: إن اللّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف باللّه أو ليصمت. أخرجاه في الصحيحين: {وَاللَّهُ غَفُور} للأغي ومن كان يمينه غير مقصود، ومن حلف على شيء سابق يتحققه: {حَلِيم} بقبول كفارة من يخطئ في حلفه لا يعامل فاعل هذين النوعين وما ألحق بهما بالشدة، ولا يعاجل من يكذب بيمينه المعقودة بالنية والقصد، كما لا يعاجل العصاة بالعقاب، فهو رءوف بعباده لا يستفزه الغضب، ولا يستخفه جهل الجاهلين قال تعالى: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ} الآية: آخر سورة فاطر ومثلها الآية 11 من سورة النحل.
قال تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ} أي انتظار {أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ} رجعوا عن يمينهم وآتوا نسائهم {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُور} للزوج الحالف إذا تاب وأناب إلى ربه وآب عن إضرار زوجته: {رَحِيم} [226] بعباده إذ يقبل توبتهم وكفارتهم ما دامت روحهم في جسدهم غير حالتي اليأس والبأس: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} بأن أصروا على إبلائهم وأرادوا إيقاع الطلاق على زوجاتهم فلم يقربوهم طيلة هذه المدة: {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيع} لإيلائهم: {عَلِيم} [227] بنياتهم، وفي هذه الجملة وعيد على عدم الفيئة، وقد جاءت هذه الآية بمناسبة الأيمان.
الحكم الشرعي:
الإيلاء والحلف على ترك وطء الزوجة أربعة أشهر فأكثر، قال ابن عباس كانت الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته شيئا فلم تفعله حلف لا يقربها السنة والسنتين، فيدعها لا أيما ولا ذات زوج، فلما جاء الإسلام جعله اللّه تعالى أربعة أشهر وأنزل هذه الآية، فإذا مضت ولم يطأها خلالها بانت منه بطلقة واحدة، لأنه عزم بذلك على طلاقها، وإن وطئها فيها بقيت في عصمته ووجبت عليه الكفارة وهي ما تقدم بيانها آنفا، وإذا حلف لأقل من أربعة أشهر فلا يعد موليا، فإن وطئها قبل هذه المدة المحلوف عليها فعليه الكفارة، وإلا فلا شيء عليه وتبقى في عصمته.
قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقاتُ} سواء بالإيلاء أو بإيقاع الطلاق عليهن أو بتفريق الحاكم أو باليمين: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} أي حيضات لقوله صلّى اللّه عليه وسلم: دعي الصلاة أيام أقرائك، ولهذا صرف معناه إلى الحيض، وإطلاقه على الطهر غير مراد هنا، لأن نص الحديث يكون حقيقة على الحيض، ومن أراد المجاز وصرفه إلى الطهر بعد هذا لا عبرة بقوله إذ لا محيد عن هذا وإن كان يطلق على الطهر لأنه من الأضداد، كالجون يطلق على الأسود والأبيض، والسدفة تطلق على الظلمة والضياء، والجلل على الكبير والصغير، والنبل على الصغار والكبار، والناهل على العطشان والريان والرهوة على الارتفاع والانحدار، والظن على الشك واليقين، والمفرع في الجبل على المصعد والمنحدر، وفعل مسر بمعنى أخفى وأعلن، وأخفى بمعنى أظهر وكتم، وباع بمعنى اشترى وشبع بمعنى جمع وفرق.
الحكم الشرعي:
إذا أوقع الرجل الطلاق على زوجته بعد الخلوة بها وقبل الدخول فعليها العدة، وإذا طلقها قبل الخلوة فلا عدة عليها ولا يحل لها الزواج قبل مضي العدة على اليقين في الحالة الأولى، ولهذا قال تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ} من تكون الولد لما فيه من انقطاع نسبه لأبيه وتوريثه منه ما لا يستحق من غيره لأن كتمان عدم انقضاء الحيض فيه ابطال حق الزوج من الرجعة إذا كان الطلاق رجعيا، إذ له مراجعتها ما دامت في لعدنى، وله تجديد النكاح عليها بعدها إذا كان الطلاق دون الثلاثة، أو بالإيلاء أو بالتفريق والفسخ: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فلا يكتمن ذلك لأنه يفضي إلى زواجهن بالغير ويضيع نسب الولد.
وهذه الآية تشير إلى أن هذا من باب كتم الأمانة، فإن الصدق فيه من فعل المؤمنات، وكما لا يجوز لهن كتمان عدم انقضاء مدة الحيض الأخير، لأنه ثلاث حيضات لا يجوز لهن أن يكتمن الطهر لما فيه من المحاذير وهو الرجعة، فتكون بغير محلها وامتداد النفقة من حيث لا يجوز لها أخذها، وكل الزوجات في هذه الأحكام سواء المؤمنة والكتابية وحتى الكافرة قبل تحريم زواجها: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ} من أجل العدة إذا كان الطلاق رجعيا أو بالفسخ أو التفريق أو بائنا دون الثلاث: {إِنْ أَرادُوا} أي الرجال: {إِصْلاحًا} مع مطلقاتهن وعزموا على حسن معاشرتهن: {وَلَهُنَّ} أني النساء من الحق على الأزواج: {مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} من حقوق الزوج وكل ذلك يجب أن يكون: {بِالْمَعْرُوفِ} من غير إضرار لأن الزوجية لا تتم إلا بمراعاة الحقوق بينهما، فيجب على الزوج أن يقوم بما تحتاجه زوجته حتى الزينة وأن يطعمها مما يطعم ويكسوها بنسبة أمثالها، وحاله ويقوم بمصالحها ويتزين لها ويسأل العلماء عما يتعلق بأمر دينها إن لم يعرف هو ذلك، وإلا فلها الذهاب بنفسها للعالم ليعرفها ما لها وعليها.- ويجب عليها طاعته والانقياد إلى عصمته، وأن تحافظ على ما له وولده ونفسها، ولا تتزين إلا له ولا تبد زينتها لغيره، وتحفظه إذا غاب فلا تدخل أحدا ولا تجلس أحدا على فراشه، وتفعل كل ما يرضيه مما لا يكون فيه معصية للّه وتتجنب كل ما يسوءه إلا فيما يرضي اللّه.
روى مسلم عن جابر أنه ذكر خطبة النبي صلّى اللّه عليه وسلم في حجة الوداع وقال فيها: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فاتقوا اللّه في النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمانات اللّه، واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهون، أي لا يؤذن لأحد بالدخول ليتحدث معهن وكان هذا عند الجاهلية لا بأس به، ولا يتصور فيه معنى آخر كالزنى مثلا، لأن فيه الحد والرجم يؤيده قوله فإن فعلن ذلك فاضربوهن وقد أجمع العلماء على أن المراد بهذا الضرب ضربا غير مبرح فلو كان المراد به الزنى لقال عليهن الحد والرجم تدبر.
وكما لكم عليهن ذلك، فإن لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف: {وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة} منزلة عالية، لأنه أعقل منها وأكمل شهادة وأكثر حقا في الإرث والدية وأتم دينا، ولأنه صالح للقضاء دونها.
قال صلى الله عليه وسلم: ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة، ولجواز تزويجه وتسرّيه عليها، ولأن طلاقها بيده ويملك الرجعة بعد الطلاق الرجعي شاءت أم أبت، ولأنه المكلف بنفقتها فضلا عما يسوقه إليها من المهر: {وَاللَّهُ عَزِيز} غالب عليكم أيها الزوجين إن هضمتم حق بعضكم، فإنه ينتقم منكم: {حَكِيم} بتفضيله الرجال على النساء للأسباب المتقدمة وأسباب أخرى هو يعلمها، لأنه لا يأمر إلا لمنفعة الخلق ولا ينهى إلا عما يضرهم وإن كانوا لا يعقلون بعض المنافع المأمور بها والمضار المنهي عنها.
قال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساك بِمَعْرُوفٍ} بعدهما بالمراجعة قولا أو فعلا: {أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسانٍ} بأن تطلقوهن طلقة ثالثة وتتركوهن بمعروف مثل ما أخذتموهن، إذ لا يحل لكم إمساكهن قبل الطلاق إضرارا بهن ولا بعده، لأنهن حرمن عليكم.
وسبب نزول هذه الآية أن الجاهلية كانوا يطلقون ما شاءوا ويرجعون على نسائهم دون عدد معلوم بالغ ما بلغ، إلا أنهم يتقيدون بالعدة فقط من حيث الرجوع، بحيث لو طلقها مرارا كثيرة له مراجعتها في العدة وهكذا، وكان هذا أيضا جاريا في بداية الإسلام إلى يوم نزول هذه الاية، حتى إن رجلا قال لامرأته واللّه لا أطلقك فتبيني ولا آويك أبدا، قالت كيف؟ قال أطلقك وكلّما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت وأخبرت عائشة رضي اللّه عنها وعن أبيها، فسكتت حتى جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فأخبرته، فسكت حتى أنزل اللّه هذه الآية فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا من كان طلق ومن لم يطلق.
الحكم الشرعي:
يملك الحر على زوجته ثلاث تطليقات متفرقات ولو في مجلس واحد فإنها تبين منه بينونة كبرى خلافا لما جرى عليه المصريون حديثا من اعتبار الطلقات المتعددات في مجلس واحد طلقة واحدة استنادا لما أن هذا كان متاعارفا في بداية الإسلام، على أن سيدنا عمر رضي اللّه عنه أقر الأول وعمل به وأمر به، ولكن الناس سائرون إلى ما تستخفه نفوسهم ويحبذون ذلك، ولعل هذا ينجز وتعمد الحكومة على العمل به لأن الناس ميالون إلى كل ما فيه يسر ولو خالف عمل السلف الصالح، وفيه إشارة إلى قوله صلّى اللّه عليه وسلم: لتتبعن سبل من قبلكم حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه، ولتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع.
كان صلّى اللّه عليه وسلم ناظر إلى ما تحدثة أمته من بعده، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم وله مراجعتها بعد طلقة أو طلقتين في العدة دون رضاها، وله تجديد العقد عليها بمهر جديد ورضاها بعدها.
ويملك على زوجته الأمة طلقتين فيراجعها بالعودة بعد الواحدة دون رضاها وبعدها برضاها وعقد ومهر جديدين.
وفي الطلاق البائن دون الثلاث يجوز العقد عليها ضمن العدة وبعدها برضاها ومهر جديد.
ثم حذر اللّه تعالى الرجال من أن يضارّوا النساء كي يأخذوا ما أعطوه لهنّ من المهر بقوله عز قوله: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ} أيها الرجال: {أَنْ تَأْخُذُوا} على الطلاق: {مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} أبدا من مهر أو غيره إذا طلقتموهن برضاكم، وهذا في غير المخالعة إذ يجوز أخذ شيء من المهر أو كله إذا كانت لا تريده، أما هو إذا كان لا يريدها فلا يحل له أخذ شيء أصلا: {إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ} من واجبات الزوجية المارة الذكر والمحبة والألفة والمودة القلبية، إذ النفرة فيها موجبة لعدم القيام بحقه كالنفرة منه: {فَإِنْ خِفْتُمْ} يا أولياء الزوجين: {أَلَّا يُقِيما} الزوجان منكم: {حُدُودَ اللَّهِ} بينهما كما هما مكلفان بها وتحققتم أن كلا منهما لا يقوم بواجبه تجاه الآخر كما هو مطلوب منه دينا ومروءة: {فَلا جُناحَ} لا إثم: {عَلَيْهِما} إذا طلب كل منهما أو أحدهما فراق صاحبه ولا بأس على المرأة: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} نفسها من المال الذي تعطيه لزوجها بمقابل خلعها، ولا إثم على الزوج في أخذ ذلك، لأنه تكبّد مهرها أولا وفراقها ثانيا لأنها لم تألفه وقد أخذها على حب بها، وعلى الحكام أن يقوموا بذلك وأن يمكن الأولياء صلاحية التفريق بينهما إذا لم يمكن الإصلاح وبقاء الزوجية على ما يريد اللّه، إذ لا يجوز أن تبقى المرأة مضارة لزوجها، ولا الزوج مضارا لها، ولا أن يبقى مع امرأة لا تألفه، والدين يسر لا عسر فيه، والشريعة غراء سمحة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآيتين 35 و128
من سورة النساء الآتية.
{تِلْكَ} الأحكام المارة الذكر هي: {حُدُودَ اللَّهِ} الواجب عليكم أيها المؤمنون الوقوف عندها: {فَلا تَعْتَدُوها} وتعرضوا أنفسكم للشقاق والخصومة في الدنيا والعقاب والعذاب في الآخرة، ولهذا يهددكم ربكم بقوله جل قوله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} التي حدها لعباده: {فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أنفسهم بما يحيق بهم من النزاع والنفرة في الدنيا، والجزاء في العقبى لتجاوزهم على اللّه ذاته بعدم اتباعهم أوامره، ومن أظلم ممن يتجاوز عليه.
نزلت هذه الآية في جميلة بنت عبد اللّه بن أبي أوفى أو في حبيبة بنت سهل الأنصاري كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها، فشكت لأبيها بأنه يضربها ويشتمها، فقال ارجعي إلى زوجك فإني أكره أن تشكو المرأة زوجها، قالت فرجعت المرة بعد الأخرى وأبوها لا يسمع لها، فذهبت إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم وذكرت له ذلك، وقالت يا رسول اللّه لا أنا ولا هو، فأرسل إليه وسأله، فقال يا رسول اللّه والذي بعثك بالحق نبيا ما على وجه الأرض أحب إلي منها غيرك، فقال لها ما تقولين؟ فكرهت أن تكذب، فقالت صدق وهو أكرم الناس حبا لزوجته، وما كنت أحدثك حديثا ينزل عليك خلافه، وإني أبغضه، فسأله فقال أعطيتها حديقة نخل، فقال لها تردين عليه حديقته وتملكين أمرك؟ قالت نعم، فرضي وطلقها.
وروى البخاري عن ابن عباس ما يؤيد هذا وإنما أمرها بإعادة المهر لأن القصور كله منها، وكان هذا متعارفا في الجاهلية، ومعمول به في الإسلام حتى الآن عند عرب البادية بلا نكير.
وعليه العمل بالمحاكم الشرعية أيضا أما إذا كان القصور من الجهتين فلا ينبغي أن يعاذ كل المهر بل بعضه ولا يجوز أخذ الكل إلا إذا كان كلّه منها وبطلبها التفريق كما في هذه القضية، لأنه مغبون مظلوم، ولذلك قال لها صلّى اللّه عليه وسلم تردّين عليه حديقته، ولهذا فإذا كان هو الذي لا يريدها فلا يجوز له أخذ شيء منه أصلا كما سيأتي في الآية 21 من سورة النساء أيضا لما فيه من الوعيد والتهديد.
ومع هذا إذا احتمل الزوج سوء خلق زوجته وهي كذلك فهو أولى وأثوب ولهما الأجر العظيم عند اللّه تعالى، لأن أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق كما جاء في الحديث الشريف الذي أخرجه أبو داوود عن ابن عمر، وكذلك إذا كان دميما وهي وسيمة، أو بالعكس فللصابر على صاحبه ثواب عظيم عند اللّه.
وجاء أيضا أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة- أخرجه أبو داود والترمذي عن ثوبان- ولا يجدر بالمرأة العاقلة أن تكون كالمتاع والدابة تباع من واحد إلى آخر وإن كان حلالا، فلو تحملت زوجها على سوء خلقه ودمامته خير لها، من أن تطلقه وتأخذ غيره خلوقا وضيئا ولا تدري هل تنشرح عنده أم لا، وقد يهون عليها فراق الآخر أيضا، وقد تندم على الأول، ومهما كانت شريفة عليها أن تتواضع لزوجها مهما كان إذا تقيد بحقوقها وراعى شروط الإسلام معها، فقد روي عن معاذ في حديث ساقه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت أن تسجد المرأة لزوجها.
وما بعد هذا تحريض على طاعة الزوجة لزوجها وناهيك به: {فَإِنْ طَلَّقَها} ثلاثا: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} هذا الطلاق البات: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} نكاحا حقيقيا بالدخول الشرعي المنبئ عنه قوله صلّى اللّه عليه وسلم الآتي بعدا.
نزلت هذه الآية في تميمة أو عائشة بنت عبد الرحمن القرضي لما روى البخاري ومسلم عن عائشة، قالت جاءت امرأة رفاعة القرضى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقالت إني كنت عند رفاعة فطلقني بت الطلاق، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدية الثوب فتبسم صلّى اللّه عليه وسلم وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته.
أي أن العقد ووجود الخلوة لا يكفيان لحل الرجوع إلى الزوج الأول بل لابد من الدخول حقيقة: {فَإِنْ طَلَّقَها} الزوج الثاني بعد وطئها على الوجه المار ذكره: {فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا} بعقد ومهر جديدين، وهذه الرجعة معلقة على الشرط المبين بقوله تعالى: {إِنْ ظَنَّا} تيقنا: {أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ} بينهما من حقوق الزوجية وإلا فلا إذ لا فائدة من المراجعة: {وَتِلْكَ} الأحكام المبينة أعلاه هي: {حُدُودَ اللَّهِ} الواجب مراعاتها على الزوجين والتقيد بها: {يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [220] ماهيتها ويفهمون مغزاها ويفقهون مرماها فيعملون بها.
الحكم الشرعي:
يشترط للزوجة التي تريد الرجوع إلى مطلقها باتا أن تتزوج بغيره بعد انقضاء عدتها منه، ثم يشترط أن تمكن الزوج الثاني من الدخول بها حقيقة، وبعد طلاقها منه وانقضاء عدتها تعود لزوجها الأول بعقد ومهر جديدين، وإلا فلا تحل له إذا فقد أحد هذه الشروط.
واعلم أنه لا يجوز أن تزوج نفسها لمدة معلومة، لأن هذا نكاح باطل وعقد فاسد، لأن النكاح إذا لحقه شرط كهذا أفسده، وعقد النكاح عندنا معشر أهل السنة والجماعة لا يكون موقتا كمن يذهب مذهب حل المتعة، والزواج لمطلق التحليل مشئوم مذموم فاعله.
روى ابن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه لعن المحلل والمحلل له.- أخرجه الترمذي- وورد أنه قال هو التبس المستعار.
وقال نافع أتى رجل إلى ابن عمر فقال إن رجلا طلق امرأته ثلاثا فانطلق أخ له من غير مؤامرة فتزوجها ليحلها للأول، فقال لا إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول اللّه، وإنما قرن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم هذا الفعل باللعن لأنه ليس من أخلاق المؤمن لمنافاته الشروط المطلوبة فيه والغيرة على نفسه، والمؤمن عزيز لا ينبغي أن يعمل ما فيه هو أنه بين الناس.
كراهة الطلاق وجواز الخلع على مال وحرمة أخذه إن كان لا يريدها ووقوع الطلاق الثلاث:
قال تعالى: {وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ} طلاقا رجعيا أو بائنا دون الثلاث: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} شارهن على انقضاء العدة، والذي يؤيد أن معنى بلغن هنا قاربن قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أرجعوهن لعصمتكم وأبقوهن عندكم وعاملوهن بالحسنى، ولو كان معناه قضين عدتهن وخلفها لما أمر اللّه تعالى بإمساكهنّ إذ لا يجوز لأن الطلاق يصير بائنا والبائن لابد له من عقد ومهر جديدين.
وجاء في القرآن بالألفاظ الصريحة للطلاق، وهناك ألفاظ تعورف عليها بوقوع الطلاق كالحرام وغيره مما عده بعض العلماء من الكناية عن الطلاق، وعده غيرهم من الصريح.
ومن الكنايات المتفق عليها لفظ تراكي طالق فقد جاء في فتاوى الخليلي من الشافعية ص130 ما نصه لا ريب أن هذه الصيغة كناية طلاق.
ولابد في الكنايات من النيّة، فلو نوى الرجل إيقاع الطلاق على زوجته بما ذكره وقع، وإن لم ينو فلا.
وهناك كنايات اصطلح عليها مبينة في كتب الفقه مثل روحي وأنت خلية برية، فكلها تحتاج إلى النية، أما صريح الطلاق فلا يحتاج بل يقع بمجرد صدوره وهو من الثلاث التي جدهن جد وهزلهن جد، والطلاق الثلاث بلفظ واحد قد تعارفوا على وقوعه ثلاثا مع أنه لا يعتبر ظاهرا إلا طلاقا واحدا ولو تكرر في مجلس واحد يعتبر واحدا أيضا كما عليه الآن محاكم حكومة مصر اتباعا لما كان في بداية الإسلام، وإن إيقاعه ثلاثا كان بخلافة عمر رضي اللّه عنه زجرا للناس من أن يلوكوا بألسنتهم كلما تغالطوا أو تخالفوا على شيء حلقوا بالطلاق الثلاث أو أوقعوا الطلاق الثلاث على زوجاتهم بلفظ واحد أو بألفاظ متعددة.
ولكن مع الأسف لم يؤثر فيهم هذا، فتراهم كلما قاموا أو قعدوا حلفوا بالطلاق أو طلقوا، ولهذا فإن ما ذهبت إليه حكومة مصر فيه وسعة للعوام ورحمة بالنساء الغائلات، إذ يطلقن بلا سبب.
وجاء في صحيح مسلم أن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر رضي اللّه عنهما طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر إن الناس قد استعجلوا في أمر كان فيه إتاءة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه.
أي أوقعه ثلاثا زجرا لهم، وكان ذلك زمن الأصحاب والخلفاء الراشدين ومن بعدهم، واستمر عليه العمل حتى الآن، واعتبار الثلاث واحدة مأخوذ من قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ} باعتبار أن ما يوقعه المطلق من الطلاق مهما كان متعددا يعتبر مرة واحدة، وعليه الفخر الرازي وجماعة من المفسرين.
هذا، وحكم الرجعة أن يشهد رجلين على قوله راجعت زوجتي فلانة لعصمة نكاحي ضمن العدة أو يعاملها معاملة الأزواج خلال العدة، فيكون راجعها فعلا: {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} بأن تتركوهن بلا رجعة حتى تنقضي عدتهن، فيملكن أمرهن، وهذا مما يؤكد أن معنى بلغن قاربن كما مر: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا} بهنّ لا رغبة: {لِتَعْتَدُوا} عليهن فيضطررن لفداء أنفسهن بأن تراجعوهن لهذه الغاية لا للإمساك بالمعروف، ولهذا يقول اللّه تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ} الإمساك بقصد الإضرار: {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وعرضها لعذاب اللّه بمخالفته حدوده التي نهى عنها ومخالفة أمره من الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان: {وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ} التي بينها لكم في حق النساء وغيرهن: {هُزُوًا} لعبا وسخرية من غير مبالاة بها ولا تدبر لما يترتب على الإعراض عنها من العذاب.
وهذه الجملة والتي قبلها جاءت بالتهديد والوعيد لمن يقدم على مخالفة ما حده اللّه في أمر النساء خاصة، لأن الإضرار بقصد أخذ الفداء عظيم عند اللّه، لاسيما إذا كانت المرأة فقيرة، فإنها تضطر للبقاء تحت ظلمه، واللّه تعالى لابد أن يغتار للمظلوم في الدنيا والآخرة.
وسبب نزول هذه الآية أن الجاهليين كانوا يكثرون من الطلاق والمراجعة بقصد إضرار الزوجة وإلجائها لرد ما دفعوه لها من المهر بعد قضاء شهوتهم منها، وإذا عوتوا على فعلهم هذا قالوا إنا لا عبون غير جادين بما نوقعه على أزواجنا، فمنعهم اللّه من ذلك وأوعدهم وهددهم لئلا يعودوا لمثله.
أخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة.
وعن أبي الدرداء: ثلاث اللاعب فيهن كالجاد النكاح والطلاق والعتاق.
وعن عمر رضي اللّه عنه:
أربع مقفلات النذر والطلاق والعتق والنكاح.
ومعنى مقفلات أنه متى نطق بهن الرجل وجين عليه إذا لم تعلق على شرط فإنهن لا يقعن إلا بوقوعه: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} فيما بين لكم مما لابد لكم منه والزموا أنفسكم الأخذ بها لتظهر عليكم آثار هذه النعمة: {وَ} اذكروا نعمة: {ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ} واعملوا بها لأن اللّه: {يَعِظُكُمْ بِهِ} لتنتفعوا بامتثال ما أمركم به وبانتهاء ما نهاكم عنه في كتابه وعلى لسان رسوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أيها الناس خافوه واخشوا عقاب عدم امتثال أمره: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} لا يخفى عليه حالكم ونيتكم، فأحسنوا قلبا وقالبا وإلا فإنه سيصب عليكم بلائه من حيث لا تشعرون ولا مخلص لكم منه.
نزلت هذه الآية في ثابت بن يسار الأنصاري لأنه طلق امرأته حتى إذا شارف أجل انقضاء عدتها راجعها بقصد إضرارها وإلجائها لإعادة ما أخذته من المهر.
قال تعالى: {وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي انقضت عدتهن، ويدل على أن المراد هنا من {بلغن} قضين قوله جل قوله: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} أيها الأولياء فتمنعوهن من الزواج، لأن معنى العضل هو المنع والضيق والشدة، قال أوس بن حجر:
وليس أخوك الدائم العهد بالذي ** يذمك إن ولّى ويرضيك مقبلا

ولكنه النائي إذا كنت آمنا ** وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا

أي لا تمنعوهن: {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ} الأول بعقد جديد إذا كان الطلاق دون الثلاث لأن الآية مصدرة بطلقتين والذي مر كله مفرع عنها، ومما يدل على أن المراد بالأزواج هم الأول قوله تعالى: {إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أي بعد ما وقع بينهم النفار والشقاق وحلوا الاختلاف فيما بينهم: {ذلِكَ} الذي وعظكم اللّه به: {يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ويعلم أن اللّه سيعاقبه فيه، فمن لا يتعظ بموعظة اللّه لا يؤمن به ولا يؤمن باليوم الآخر، فيكون خارجا عن حدود اللّه مخالفا أوامره مقترفا نواهيه دون تأويل: {ذلِكُمْ} الذي أمر، به من ترك العضل والإضرار والإمساك بالمعروف والإحسان: {أَزْكى لَكُمْ} أيها الناس عند الناس، لئلا يقال فيكم ما يثلب كرامتكم من الانتقاد، ومظنة أخذ الفداء من النساء، أو زواجهن ثانيا لأخذ مهورهن في حالة العضل: {وَأَطْهَرُ} لقلوبكم وقلوب الناس مما يحوك فيها من ذمكم وغيبتكم، وأجمع للمودة وأقرب للثناء الذي هو خير من الغنى، وأبعد من أن تمزّقوا أعراضكم بما تلوكه ألسنة الناس فيكم، وأزكى لكم عند اللّه تعالى لرضاه عليكم بامتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه وزواجره رغبة لا رهبة، ومن هنا أخذ العلماء اشتراط رضى الولي بالنكاح قريبا كان أو بعيدا ثيبا كانت أو بكرا، ولهذا البحث صلة في الآية 25 من سورة النساء الآتية: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} بأن الذي حده لكم في هذه الآيات هو خير لكم في دينكم ودنياكم وعاقبة أمركم: {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} عواقب الأمور وما يترتب على الامتثال في الإصلاح بينكم وما ينجم عن الخلاف من عواقب سيئة، لأنكم تجهلون النتائج وما ينشأ عنها.
وليعلم أن حكم هذه الآيات كلها عام مطلق، وأن نزولها بسبب خاص لا يخصص عمومها ولا يقيد إطلاقها، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، والآية الأخيرة نزلت في معقل بن يسار المزني إذ منع أخته جميلة من الرجوع إلى زوجها عاصم بن عدي أبي القداح لأنه زوجها إليه رغم طلبها من الكثيرين، فطلقها وتركها عنده حتى انقضت عدتها وخطبت من قبل الغير، فكلفه أن يرجعها إليه فأبى لأنه تركها حتى خطبت وقال واللّه لا أنكحها لك أبدا وهي تريد الرجوع إلى زوجها الأول، فلما نزلت الآية كفر عن يمينه وأنكحها إياه لإرشاد الرسول له ولغيره بأن من حلف يمينا ورأى أن في حنثه خيرا فعل ما هو الخير وكفر عن يمينه كما مر، وقد أخرج هذا الحديث البخاري والنسائي وغيرهما في معقل المذكور، وقيل نزلت في جابر بن عبد اللّه لما طلق ابنة عمه زوجها وأراد إرجاعها فأبى عليه قائلا أتطلق ابنة عمي ثمّ تريد أن أرجعها إليك.
كأنه أنف من ذلك تعظما عليه ولا مانع من تعدد الأسباب.